بسم الله الرحمن الرحيم
الزمان : 28/11/2010 الساعة الحادية عشرة صباحاً .
المكان : أمام المدرسة الإعدادية حيث مقر لجنة إنتخابات مجلس الشعب 2010 .
الوصف العام : حالة من الزحام الشديد .. الباب مغلق كالمتوقع .. الدخول اثنين اثنين فقط .
كان يوماً غير عادي منذ بدايته .. استيقظت على غير العادة مبكراً .. أخذت حمامي الصباحي لأفيق من حالة الخمول التي كنت فيها .. تناولت إفطاراً سريعاً وارتديت بدلتي السوداء فوق القميص الأسود ونظارتي السوداء وحذائي الأسود .. لا أدري ما كل هذا السواد !! وكأني كنت أعلم مسبقاً أنني على موعد مع جنازة الديمقراطية المصرية في هذا اليوم .. ومأتم الضمير والنزاهة !! .. المهم .. كانت هذه المرة مختلفة كلياً عن أي مرة سابقة .. وهذا لسببين .. أولهما أن هذه الإنتخابات هي أول انتخابات أشارك فيها ! .. نعم .. فمنذ خمس سنوات مضت كنت لم أسجل بالجداول الانتخابية بعد .. لكن هذه المرة أتممت عامي الثاني والعشرون منذ بضعة أشهر .. وتم قيدي تلقائياً في الجداول .. ربما كان لي الحق في الادلاء بصوتي في انتخابات الشورى السابقة .. لكن لمن لم يكن لديه علم فقد قامت قوات الشرطة بتسهيل العملية على جميع الناخبين والإدلاء بالأصوات بدلاً منهم ! .. نعم !! لم يدخل اللجنة الانتخابية يومها مواطن واحد ! .. السبب الثاني أن هذه المرة المرشح على مقعد الفئات هو شخص أعرفه جيداً وهو من القلة المحترمة المحبوبة على المستوى العام والخاص أيضاً .. برأيي كان أفضل من يمثل الدائرة .. بدلاً من مرشح الوطني الذي يدخل عامه السادس عشر في البرلمان المصري عن دائرتنا دون أن نرى وجهه سوى مرة أو مرتين في أيام الانتخابات !
ذهبت نحو الباب .. بعد أن قمت بمئات المصافحات باليد والعناق والتقبيل .. أهلي .. أقاربي .. معارفي .. ياللغرابة ! منذ فترة طويلة لم أرهم .. ولم يروني .. وكأنني كنت على سفر .. بالفعل أنا تقريباً كنت على سفر دائم .. فأنا لا أظهر كثيراً ونادراً ما أخرج للقاء أحدهم .. فخط سيري معروف .. من منزلي إلى عملي والعكس .. المهم حاولت الوصول للباب .. وبعد عدة محاولات مضنية أخفقت تماماً في الدخول .. فخرجت من الزحام أنفض ملابسي وحذائي الذي تغطى بالتراب بعد أن كان يلمع منذ قليل .. وأخذت جانباً على الطريق بجوار المدرسة ووقفت أراقب المنظر من بعيد .. كنت أكره الزحام بشدة .. وكذلك الطوابير .. والتضييقات الأمنية وخلاف هذا مما يكدر صفو الحياة .. ويقيد حرية الناس .
انسحبت في هدوء واتجهت نحو الباب الخلفي للمدرسة في الشارع الآخر .. كان مغلقاً طبعاً بالجنازير والقفل .. وقفت أمام الباب .. و .. طق طق .. فشاهدت عين أحدهم تنظر من فتحة الباب الكبيرة .. كان يبدو عليه أنه أحد جنود الأمن المركزي الذي يحفظون أسماءهم بالكاد .. المهم تداركت الموقف سريعاً وقلت بلهجة آمرة وصوت غليظ : إفتح الباب يابني ! .. وعلى الفور ومما أثار دهشتي انفتح الباب !! دخلت بهدوء واتبعت كلامي للجندي : إقفل الباب ده ومفيش مخلوق يعدي من هنا .. فقال على الفور : أمرك يا بيه اتفضل .. خطوتين وظهر أمامي أمين شرطة .. أأمر يا فندم ؟ .. قلتله : مباحث .. ووقفت ووجهي في وجهه .. فقال على الفور .. اتفضل يا فندم .. وأوصلني حتى المبنى الداخلي وقال لي بابتسامة صفراء : كله تمام يا فندم .. الرجالة قايمين بالواجب !!! .. امسكت دهشتي وغيظي بصعوبة وتظاهرت بالرضا وقلت له تمام تمام .. انا هطلع ابص بصة كده ونازل .. قاللي أوامر سيادتك !!
صعدت الدرج .. وكان عدد الناخبين لا يكاد يحصى .. توجهت للجنتي ودخلت فوجدت أشخاصاً لا أعرفهم .. بالطبع كانوا من المدرسين وموظفي الحكومة الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً .. سألني أحدهم عن رقمي الانتخابي فقلته له .. فقال لي وقع هنا .. فوقعت .. وسلمني البطاقة الأولى .. وبجوار الصندوق الثاني نفس الأمر .. وقعت وسلمني بطاقة أخرى الخاصة بكوتة المرأة .. توجهت لآخر اللجنة .. لم أكن بحاجة للستار الأزرق .. فقد كانوا ثلاثة أشخاص فقط في اللجنة وبعيدين عني .. قمت بالإدلاء بصوتي .. ووضعت بنفسي البطاقتين في الصندوقين .. بعد أن طويتهما .. وغمست اصبعي الصغير في هذا الشئ الأحمر المقرف المسمى بالحبر الفسفوري .. الذي اتضح أنه خدعة كبيرة وأزلته من يدي بعد دقيقة واحدة عند عودتي للمنزل ! .. وأثناء نزولي من الدور الرابع بالمدرسة لاحظت اغلاق الباب تماماً وأنا فوق .. وتظاهر بعض الأهالي أمام الباب .. فالتقطت صورتين سريعاً بكاميرا هاتفي ونزلت.
نزلت من اللجنة وسط استغراب الكثيرين حول كيفية دخولي قبل الواقفين امام الباب منذ ساعة وأكثر في انتظار دورهم .. حتى الضابط المسؤول عن المبنى حدق في قليلاً فهو لم يرني أدخل من الباب الذي يجلس بجواره .. ولكنه لم يعلق .. ثم استأذنت أقاربي الواقفين في المغادرة وقلت للجميع بصوت مسموع : سلام عليكم .. فردوا جميعاً السلام بما فيهم الضابط .. وخرجت من الباب الأساسي للمدرسة .. توقعت أن يسألني الضابط كيف دخلت خاصة وأن مظهري العام كان مميزاً قليلاً ولكنه لزم الصمت .
خرجت وسط الزحام الكثيف .. ووقفت قليلاً ثم شاهدت الأستاذ (طارق) المرشح .. كان يتحدث في الهاتف ويبدو عليه التعب والارهاق الشديد .. أخبروه في الهاتف بأن إحدى اللجان في المناطق المجاورة التابعة لدائرتنا قد اغلقت .. فأشار لي بأن أتبعه .. ففعلت .. وركبنا السيارة وكان برفقتنا أحد الصحفيين .. وكانت بداية لجولة كبيرة جداً على معظم لجان الدائرة ..
وصلنا اللجنة الأولى .. وشاهدت بعيني استقبال الأهالي له بحفاوة بالغة .. أذكر أن أحدهم قال له .. والله يا باشا أنا ما اعرفك شخصياً بس انتخبتك لأني بسمع عنك كل خير .. ومتوسم فيك الخير بإذن الله .. فشكرناه كثيراً ودعا لنا بالتوفيق .. ثم ذهبنا .. اللجنة مغلقه بالفعل .. فتح الضابط الباب حين علم أنه مرشح الدائرة .. ودخلت برفقته ومعنا الصحفي .. شاهد الضابط كاميرا الديجيتال في يدي .. كنت أضعها في الجراب وأضعها في جيبي .. تعمدت إظهار ذلك امامه حتى لا يظن انني أتيت للتصوير .. وبالرغم من ذلك فقد أشار لاثنين من أمناء الشرطة بأن يتبعانا داخل اللجان حتى نخرج من المدرسة ! .. أخبرنا الأهالي بأمور غريبة .. أحدهم أخبرنا أن بطاقات الانتخاب نفدت !!! وآخر قال لنا لقد أغلقوا المدرسة تماماً لمدة ساعة ودخلت قوات شرطة من الأبواب الخلفية تحمل صناديق مغطاه .. وصعدوا بها إلى اللجان .. بعد أن طردوا تماماً كل المندوبين ومشايخ القرى وأي شخص له صلة بالمرشحين .. وسمعنا هذا السيناريو في كل مدرسة ذهبنا إليها .. ياللعار !! لقد تم التزوير تحت حماية الشرطة في جميع لجان الدائرة وعلى مرأى ومسمع من الجميع .. ياله من أمر مخزي! .. كل ذلك دونه الزميل الصحفي في مذكرة خاصة .. ونقله بالتليفون المحمول فوراً إلى زميلته في أسرة التحرير .. ودون الأستاذ (طارق) أيضاً بعض الملاحظات في أجندته الخاصة .. ثم انطلقنا .
رجعنا في نهاية اليوم إلى منزله .. واستأذنت أنا قليلاً ووصلت لمنزلي وتناولت وجبة الغداء .. لقد جهز الأستاذ (طارق) طعاماً شهياً يكفي الجميع ! ولكنني فضلت دجاج والدتي المحمر في السمن البلدي الأصيل والمكرونة المحمرة بالصلصة التي أعشقها هههههههه انهيت وجبتي ونظرت نظرة سريعة على فيس بوك .. ثم قمت لمواصلة اليوم الشاق ..
ظللت طوال الوقت أتجول بلا توقف .. هذا رجل بسيط لا يعلم رقمه الانتخابي ولا لجنته .. آخذه وأذهب به للكمبيوتر وأكتب له رقمه على بطاقة صغيرة وكذلك اللجنة التابع لها .. وذاك رجل كبير في السن لا يقوى على الوقوف .. أسانده في السير حتى باب اللجنة .. وتلك امرأة عجوز لا تعرف كيف تنتخب فنشرح لها .. مما انبهرت به في ذلك اليوم هو الحضور المشرف للمواطنين .. والجدية والصرامة التي ارتسمت على وجوههم .. لقد حضرت المنطقة عن بكرة أبيها .. بكبيرها وصغيرها وشبابها وعواجيزها .. وأصحائها ومرضاها .. ومتعلميها وجاهليها .. الجميع حضروا لذلك اليوم الهام .. حضروا ليسلموا الأمانة الغالية التي يمتلكونها للوطن .. أصواتهم !
مضى الوقت سريعاً ودقت الساعة السابعة .. وأغلقت اللجنة تماماً ونزلت فصائل الأمن المركزي لتفرض ثلاثة كردونات لمنع دخول أي مواطن أو اقترابه نحو اللجنة .. وأغلقت الشارع تماماً الذي يمر بالمدرسة .. كنت قد اكتسبت ثقة كبيرة في نفسي بعد الموقف الصباحي مع باب المدرسة المغلق .. والجندي وأمين الشرطة .. والضابط الذي لزم الصمت رغم موقفي المريب .. ومعاملة ضباط الشرطة في جميع اللجان التي ذهبنا إليها التي حملت طابع الاحترام والهيبة .. ولله الفضل والمنة .. فقررت التواجد داخل مربع العمليات كما يطلق عليه البعض .. فتهيأت للعب نفس الدور الذي لعبته في الصباح .. ولكن على نطاق أوسع هذه المرة ! .. وبدأت أكبر وأظرف تمثيلية قمت بها في حياتي !!! ههههههههههه .. كان الجميع من أهل وأقارب ومواطنين يقفون جميعاً خارج كردون الأمن .. وينظرون بدهشة إلى شخصين فقط يقفان مع ضباط أمن الدولة بمختلف رتبهم ودبابيرهم ونسورهم .. شخصين فقط لم يخرجا من كردون الأمن .. بل ظلا بالداخل .. يتجولان بمنتهى الحرية .. بل ويقومان بالدخول والخروج من الكردون الأمني بكل حرية .. والسماح لبعض المعارف بالدخول أيضاً وعبور الشارع من الداخل .. بدلاً من طريق رأس الرجاء الصالح الذي سلكه أغلب المواطنين في هذا اليوم للوصول إلى منازلهم !! .. كان هذين الشخصين هما أنا ببدلتي السوداء ونظارة الشمس المعلقة في جيب بدلتي وأحد أصدقائي ممكن يملكون رهبة المنظر والجسد الضخم ومع الملابس والنظارة الريبان المعلقة اكتمل الدور تماماً :) .. تخيل كم الاحترام المتبادل من ضباط الشرطة الآخرين !! شاي وقهوة باستمرار من داخل مركز الشرطة الملاصق للمدرسة !! صندوق كرتوني به وجبة ساخنةلم أكلف نفسي حتى عناء فتحها .. حقاً نحن بلد مظاهر خادعة !!! دون أي عناء وبقليل من الجرأة والدهاء تقمصنا تماماً هيئة ضباط مباحث .. ولم يخطر ببال أحد هؤلاء الضباط حتى أن يسألنا عن هويتنا أو اسماءنا !! بل كانوا ينصتون في اهتمام بالغ لما نقوله .. بل وطلب بعضهم منا المشورة في التعامل مع أهل المنطقة .. وأماكن رص الكردونات وعربات الأمن المركزي !! واستمعوا منا للعديد من القصص حول الحوادث التاريخية التي حدثت في منطقتنا .. والصدامات بين الأهالي والشرطة .. وتطور الحوار إلى الحديث عن الناس والأسر والأطفال والأجيال الجديدة .. ومصطلحات الشباب التي انتقلت للسان الأطفال مثل ( الشباب السيس .. والخرونج والكاورك .. وفكك مني .. وغيرها ) وسط ضحكات وقهقهات عالية من الجميع !
الساعة الثامنة والنصف .. انتهت العربات المحملة بصناديق الاقتراع من اللجان الأخرى من إنزال الصناديق وخرجوا .. هدوء تام .. واستمر الفرز .. بهدوء كالعادة .. ثلاثة ساعات مرت كأنهن ثلاثة سنوات .. صمت كامل يطبق على الجميع .. حتى خرج الأستاذ (طارق) وعلامات الأسى تبدو على وجهه .. وطلب من مؤيديه المغادرة في صمت وعلل ذلك بأن الفرز سيطول قليلاً .. ولم يعلم أننا نعرف الموضوع برمته .. فلم نرد أن نحمله بعبء أكبر من الذي يحمله .. وانصرف الجميع في هدوء ... لقد خسر الأستاذ (طارق) المعركة بشرف .. لقد فاز مرشح الوطني بالتزوير .. وأسدلت الحكومة الستار في ذلك اليوم على أكبر جريمة خيانة في حق الشعب المسكين .. وشيعت جنازة الديمقراطية والنزاهة والشفافية في يوم عصيب .. ولم يملك الجميع سوى قول : حسبنا الله ونعم الوكيل !
أحمد أمين ،